لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده..
فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة, تقول كلمتها وتخنار خليفتها..
ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..
ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة, سيلجأ الى المناورة, هما يكن اقتناعه بمعاوية..
ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..
حذره من مناورات عمرو وقال له:
" أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك, فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم, ثم تكلم أنت بعده"..!
لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو, ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..
واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي, وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..
ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:
" ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!
وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.
وقال:
" أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة, ويصلح أمرها, فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية, وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..
واني قد خلعت عليا ومعاوية..
فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...
وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية, كما خلع أبو موسى عليا, تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...
وصعد عمرو المنبر, وقال:
" أيها الناس, ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه,
ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه, وأثبت صاحبي معاوية, فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه.."!!
ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة, فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..
وعاد من جديد الى عزلته, وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام, يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..
كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه, وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم...
ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..
وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..
وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..
وولاه الخليفة عثمان الكوفة..
وكان من أهل القرآن, حفظا, وفقها, وعملا..
ومن كلماته المضيئة عن القرآن
" اتبعوا القرآن..
ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!!
وكان من اهل العبادة المثابرين..
وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس, كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:
" لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..
وذات يوم رطيب جاءه أجله..
وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز
والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة, راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز
تلك ه:
" اللهم أنت السلام..ومنك السلام